في روايته «عناقيد الرذيلة» يلجأ الكاتب الموريتاني أحمد ولد الحافظ إلى تقنية سردية طارئة على النمط، أي أنه يقدم إلينا رواية الحدث بعد وقوعه بزمن. مع السرد اللاحق. فضلاً عن التنبؤ، ما يعني رواية الحاضر المستمر إلى ما لا نهاية، وهو يفعل ذلك عن طريق الراوي الذي يفتتح العمل بإيماءة سريعة أو نوع من التنبيه والاستشراف لما ستؤول إليه الحكاية: "يُصرُّ "لَمَاتْ وَلْ بُو بُوذْنَابَ" على أنَّ كلَّ الأحداث الواردة في هذه "الرواية" وكلُّ "الشُّخوص" الموجودين بها وكلَّ "الأماكن" التي تدور بها أحداثها.. كلُّ ذلك يُصرُّ على أنه حقيقيٌ لا زيادة فيه ولا تحريف؛ غير أنَّني لا أتحملُ أيَّ مسؤوليةٍ تجاه ذلك الكلام؛ بَلْ لا أشاطره الرأي في واقعية شيءٍ من ذلك.. لا أرى "الأحداث" ولا "الأماكن" إلا توهماً تخيله "لَمَاتْ وَلْ بوذنابَ" نفسه ليس إلَّا هاجساً أو وهماً داعب أحلامي "أنا" ذات ليلةٍ شاتيةٍ، وأنا أتصفحُ تاريخاً صحراويّاً بائساً وموحشاً..! (...)".
تدور أحداث الرواية في مدينة نواكشوط/ موريتانيا وتروي حكاية الفتى "لَمَات وَلْ بوذنابَ" الذي بات ينتظر نتائج البكالوريا شعبة الرياضيات، وقد قرر المشاركة فيها بعد أن أعلنت "ناسا" تخصيص مقعدٍ للدراسات الفضائية لموريتانيا ومع أن لَمَات كان الأول طيلة ماضيه الدراسي ونابغة بين أقرانه من الطلاب إلَّا أنه لم يفز بجائزة "الناسا"؛ وليتبين بعد فحص دقيق لإجاباته في مادة الفيزياء أن المصححون، لم يفهموا ما ذهب إليه؛ لكن إجاباته شكلتْ نظريات مركزية؛ مثلت – لاحقاً – منعطفاً كبيراً في المعرفة الفيزيائية!
إنه شابٌّ عاش قبل أيامه؛ عانى كثيراً وهو يواجه بني البشر وآثامهم؛ حاولو إغراءه؛ فاتحين له أبواب كلِّ دنياهم.. لَكِنَّهُ هجر أباطيلهم ودجلهم؛ ليعيش بقية أيامه بعيداً بين كائناتٍ أخرى من غير جنسه... حتى لفظَ آخر نفسٍ وهم يكتبون ويكذبون.. ويدوِّنون حول سرِّ اختفائهِ.. فلماذا اختفى ذلك الفتى وكيف؟ ولماذا دوت حكايته ومذكراته الآفاق؟
من أجواء الرواية نقرأ:
انتبذتُ هذا الرُّكن بعيداً عن أدران البشر "القائمة".. ركنتُ هنا إلى أرواح آبائي الطيبين؛ لأعلن براءةً – باسمي وباسمهم – من كلِّ "إفك" مورس ظلماً؛ واكْتَوَى به بريءٌ؛ لا ذنب له ولا حَوْل؛ ضقْتُ ذرعاً ببهتانٍ ليس له أن يَرْعَوي؛ ما عادتْ بي رغبةٌ إلى شيءٍ من تلك الحياة.. سأفضحُ كلَّ عناقيد الرذيلة التي ارتُكبَتْ باسم الله وباسم المروءة.. سأُعريها؛ سأُبرئُ ذمتي لربي؛ وهو حسبي وعليه معوَّلي..!
عندما تجدكَ رهن سجنٍ ضخم؛ محكم الإغلاق؛ تحاصرك سوداوية الواقع، وضبابية المستقبل.. تجدُ ذاكرتك عفوياً تسرحُ بعيداً في "الآثار" تتصفحُ الماضي؛ بحثاً عن حدثٍ "دافئ" تتدثر به من "برد" الهزيمة والفشل؛ تبرر به قروناً من الخور والعالة والتسوُّل.. نحنُ أمةٌ تسكنها "الأطلال"، وقفنا بها وبكينا من أيام "امرئ القيس" وحتى يوم الله "هذا" ما زلنا نفتش عنها؛ نعود إليها؛ نقفُ.. نبكي.. نستوقفُ.. نستبكي.. مناجاة "الطلل" عبادةٌ لا مناص للمتبتلين في محرابنا من ممارستها..!".